أمهات المؤمنين في موكب الدعوة
لماذا الكتابة في هذا الموضوع..؟
يأخذ هذا الموضوع مكانه -عادة- في الجزء الأخير من كتب السيرة.. يتحدث الكتّاب فيه عن سيرة أمهات المؤمنين باختصار.. ويتعرضون في بعض الأحيان للشبهات التي أثارها بعض المستشرقين حولهنّ: تعددهنّ.. وبعض الأحداث التي مرت في حياتهن..
هذه الموضوعات لا تدخل ضمن نطاق كتابنا.. وإذا تناولناها باختصار، فمن قبيل الإلمام بمجمل الموضوع.. فلهذا الموضوع كتب أخرى وكتّاب آخرون.
فماذا نريد بهذا الكتاب..؟
قضية المرأة ودورها في حياة الرجل والأسرة والمجتمع.. وفي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. مختلف عليه بين الإسلاميين. فريق يرى أن رسالتها العظمى تكمن في حسن التبعّل.. وإدارة البيت.. وتربية الأبناء وإعدادهم للحياة.. وفريق يرى أن للمرأة حقوقا تتجاوز هذا الحدّ.. وهي تكافئُ حقوق الرجل.. إن لم تكن بالنوع (في بعض الأحيان).. ففي عموم الموضوع.من يحسم هذا الخلاف..؟
تحسمه النصوص الصحيحة.. وسيرة أمهات المؤمنين.. اللواتي نزلت النصوص في بيوتهن، وكن التطبيق العملي لهذه التعاليم.. طبقن ذلك تحت سمع وبصر النبي صلى الله عليه وسلم فسددهن وعلمهن.. وأطلقهن معلمات لنساء ذلك الجيل.. ومرشدات لأجيال النساء فيما بعد..
نريد أن نبحث عن الحقيقة في سيرتهن.. وعن العظمة التي اكتسبنها في بيت النبوة.. فأصبحن المثل الرائد.. والقدوة المتفردة.. عبر العصور..
إن البحث المستأني في سيرة أمهات المؤمنين يكشف لنا أن في زواجه صلى الله عليه وسلم من كل واحدة منهن حكمة.. إما تعليمية أو تشريعية أو سياسية أو اجتماعية.. ولقد حاولنا أن نتتبع تلك الخيوط ونكشف عنها..
أولا - الحكمة التعليمية
وهي أهم تلك الحكم وأبقاها.. فالحكمة السياسية أو الاجتماعية في حياة أمهات المؤمنين ربما انتهت بانتهاء أسبابها.. أما الحكمة التعليمية فباقية، فهي الموصولة بمنبع العلم.. الناشرة عرفه في المجتمع الإسلامي.. النافذة إلى كل امرأة وفتاة في ذلك العصر.. الباقية أثرا يُقتدى به في كل العصور..
· تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فعلّمها كيف تغتسل، ثم قال لها: خذي فرصة ممسكة (أي قطعة من القطن بها أثر الطيب) فتطهري بها.. قالت: كيف أتطهر بها..؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف يا رسول الله أتطهر بها؟ فقال لها: سبحان الله تطهري بها..!! قالت السيدة عائشة: فاجتذبتها من يدها، فقلت: ضعيها في مكان كذا وكذا، وتتبعي بها أثر الدم، وصرحت لها بالمكان الذي تضعها فيه.
· وفي حديث أم سلمة قالت: جاءت أم سليم (زوج أبي طلحة) رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن الله لايستحي من الحق.. هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء.
فقالت أم سلمة (أم المؤمنين): لقد فضحت النساء، ويحك أوَ تحتلم المرأة؟ فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إذاً فبمَ يشبهها ولدها..؟
وكان المؤمنات يسألنه عن كل ما يعرض لهن على اختلاف درجاتهن في الحياء حتى كان بعضهن يشكو إليه هجر بعولتهن لهن اشتغالا بالتعبد أو لغير ذلك. وكان لا بد من تعليمهن وإنصافهن من بعولتهن.
مثل هذه الأسئلة (الخاصة) كانت تحرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتتولى أمهات المؤمنين شرحها وتبيانها.
· تقول السيدة عائشة: رحم الله نساء الأنصار، ما منعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.. كانت المرأة من هؤلاء تأتي إلى السيدة عائشة رضي الله عنها لتسألها عن بعض أمور الدين، وعن أحكام الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من الأحكام التي تستحي المرأة عادة من ذكرها.. كآداب المعاشرة والجماع والزينة وغيرها..
ومن المعروف أنّ السنة المطهّرة ليست قاصرة على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل تشمل قوله، وفعله، وتقريره.. وكل هذا من التشريع الذي يجب على الأمة اتباعه، فمن ينقل لنا أخباره وأفعاله صلى الله عليه وسلم في المنزل، غير هؤلاء النسوة اللواتي أكرمهن الله فكن أمهات للمؤمنين وزوجات لرسوله الكريم[1] ؟
كان الرجال والنساء يرجعون بعده صلى الله عليه وسلم إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام الدين ولاسيما الزوجية فمن كان له قرابة منهن كان يسألها دون غيرها.
فكان أكثرُ الرواة عن السيدة عائشة رضي الله عنها أختَها أمَّ كلثوم وأخاها من الرضاعة عـوف بـن الحارث، وابن أخيها القاسم وعبد الله ابني محمد بن أبي بكر، وحفصة وأسماء بنتي أخيها عبد الرحمن، وعبد الله وعروة ابني عبد الله بن الزبير من أختها أسماء. وروى عنها غيرهم من أقاربها ومن الصحابة والتابعين وهم كثيرون جدّا.
كذلك كان أكثر الرواة عن السيدة حفصة رضي الله عنها أخاها عبد الله بن عمر وابنه حمزة وزوجه صفية بنت عبيد وأم بشر الأنصارية رضي الله عنهم أجمعين.
وأكثر الرواة عن السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أبناء أخواتها ولاسيما أعلمهم وأشهرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
وأشهر الرواة عن السيدة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها ابنتها حبيبة وأخوها معاوية وعنبسة وابنا أخيها وأختها رضي الله عنهم أجمعين.
أما السيدة صفية بنت حيي رضي الله عنها فقد روى عنها ابن أخيها رضي الله .
وهكذا نرى كل واحدة من أمهات المؤمنين قد روى عنها عِلمَ الدين كثيرٌ من أولي قرباها ومن النساء والرجال الآخرين.
وجملة القول: إن أمهات المؤمنين التسع اللائي توفى عنهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كنّ كلهن معلمات ومفتيات لنساء أمته ولرجالها مما لم يعلمه عنه غيرهن من أحكام شرعية وآداب زوجية، وحكم نبوية[2] .
ثانيا- الحكمة التشريعية
وأوضح مثال لهذه الحكمة التشريعية زواجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أنه قال:
إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنّا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن )ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله( [3] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل.
وقد زوجه عليه السلام بابنة عمته (زينب بنت جحش الأسدية).. ولم يكن زواجا موفقا فقد كانت تعامله بشدة.. ولم تنسَ لحظة أنها ذات الحسب والنسب.. وأنه عبدٌ مملوك قبل أن يتبناه النبي. وطلّق زيد زينب.. فأمر الله رسوله أن يتزوجها ليبطل بدعة التبني ويعيد الأمور إلى نصابها..
وخشي رسول اللهصلى الله عليه وسلم ألسنة المنافقين أن تقول: تزوج محمد امرأة ابنه.. وفي ذلك ما فيه من حرج شديد. تباطأ النبي في تنفيذ ذلك حتى نزلت الآية:
)وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكونَ على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرا، وكان أمر الله مفعولا( [4].
كان لابد من إبطال هذه العادة السيئة.. وإرجاع الأمور إلى نصابها.. فكانت حكمة الله أن يتزوج رسول الله من زينب بنت جحش..
روى البخاري بسنده أن زينب رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهليكنّ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات..
ثالثا- الحكمة الاجتماعية
وهذه الحكمة تتجلى في أمرين..
الأمر الأول: أنه صلى الله عليه وسلم وثّق صلاته بالمصاهرة مع أقرب أصحابه إليه، فقد تزوج عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنه الذي قال فيه رسول الله: ما لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافيناه بها، ماخلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافيه الله تعالى بها يوم القيامة..
وتزوج من حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. فكان ذلك قرة عين لأبيها عمر على صدقه وإخلاصه، وتفانيه في سبيل هذا الدين، وعمر هو بطل الإسلام، الذي أعزّ الله به الإسلام والمسلمين، ورفع به منار الدين.. فكان اتصاله عليه السلام به عن طريق المصاهرة خير مكافأة له على ما قدم في سبيل الإسلام [5].
وكذلك زوج بناته من عثمان وعلي رضي الله عنهما..
وهكذا وثّق رسول الله صلاته الاجتماعية عن طريق المصاهرة بأكرم طبقة من الصحابة وأعظمهم دورا في خدمة الدعوة..
الأمر الثاني: هو الدور الذي لعبته أمهات المؤمنين في توعية النساء ورفع مستواهن.. وحثّهن على المطالبة بحقوقهن.. فكنّ بحق زعيمات الإصلاح الاجتماعي في المجتمع المسلم.
كان الناس يترسمون في معاملة أزواجهم ما يفعله النبي، وكان صلى الله عليه وسلم معهن ليّن الجانب حلو العشرة سهل
المقادة، كن يراجعنه في كثير من أموره، ويرددن عليه حتى صرن قدوة يقتدي بها بقية النساء، فإذا أنكر زوج حق زوجته في مراجعته احتجت عليه بعمل الرسول فأسكتته، وما أطرف حديث عمر بن الخطاب يقص فيه ما جرى له معهن، ويصف هزيمته وكيف انكسر لهن، على رغم شدّته، قال:
والله إن كنّا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم، فبينا أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا. فقلت لها: ومالكِ أنت ولما هنا؟ وما تكلفك في أمر أريده؟
فقالت لي: عجبا لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تُراجعَ أنت وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظلّ يومه غضبان. فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة، فقلت لها: يا بنية إنك لتراجعين رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان؟
فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه. فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. ثم خرجت حتى أدخلَ على أم المؤمنين أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها فقالت لي:
عجبا لك يا ابن الخطاب: قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه؟ فأخذتني أخذا كسرتني به عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها [6]..
لقد ارتفعت مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي.. وكانت أمهات المؤمنين رائدات التغيير في ذلك المجتمع قريب العهد من الجاهلية.
كانت السيدة عائشة رضي الله عنها زعيمة الآخذين بناصر المرأة، والمنافحين عنها بلا منازع، وإليها وحدها تتطلع أبصار المستضعفات، لما تمّ لها من المكانة الكبيرة في العلم والأدب والدين، حتى تقطعت دون مقامها الأعناق، وكانت أستاذة لمشيخة الصحابة الأجلاء في كثير من أمور العلم والدين.
ولبث الخلفاء الراشدون يرعون منزلتها ويشاورونها ويسألونها المسائل ويرجعون إلى رأيها، وهي واقفة بالمرصاد لكبارهم: تصحح لهم كلما رأت خطأ في حديث يحدثون به أو حكم يصدرونه. وقد ألّف الزركشي كتابا قائما برأسه على الأمور التي استدركتها عائشة على أعلام الصحابة.
لماذا الكتابة في هذا الموضوع..؟
يأخذ هذا الموضوع مكانه -عادة- في الجزء الأخير من كتب السيرة.. يتحدث الكتّاب فيه عن سيرة أمهات المؤمنين باختصار.. ويتعرضون في بعض الأحيان للشبهات التي أثارها بعض المستشرقين حولهنّ: تعددهنّ.. وبعض الأحداث التي مرت في حياتهن..
هذه الموضوعات لا تدخل ضمن نطاق كتابنا.. وإذا تناولناها باختصار، فمن قبيل الإلمام بمجمل الموضوع.. فلهذا الموضوع كتب أخرى وكتّاب آخرون.
فماذا نريد بهذا الكتاب..؟
قضية المرأة ودورها في حياة الرجل والأسرة والمجتمع.. وفي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. مختلف عليه بين الإسلاميين. فريق يرى أن رسالتها العظمى تكمن في حسن التبعّل.. وإدارة البيت.. وتربية الأبناء وإعدادهم للحياة.. وفريق يرى أن للمرأة حقوقا تتجاوز هذا الحدّ.. وهي تكافئُ حقوق الرجل.. إن لم تكن بالنوع (في بعض الأحيان).. ففي عموم الموضوع.من يحسم هذا الخلاف..؟
تحسمه النصوص الصحيحة.. وسيرة أمهات المؤمنين.. اللواتي نزلت النصوص في بيوتهن، وكن التطبيق العملي لهذه التعاليم.. طبقن ذلك تحت سمع وبصر النبي صلى الله عليه وسلم فسددهن وعلمهن.. وأطلقهن معلمات لنساء ذلك الجيل.. ومرشدات لأجيال النساء فيما بعد..
نريد أن نبحث عن الحقيقة في سيرتهن.. وعن العظمة التي اكتسبنها في بيت النبوة.. فأصبحن المثل الرائد.. والقدوة المتفردة.. عبر العصور..
إن البحث المستأني في سيرة أمهات المؤمنين يكشف لنا أن في زواجه صلى الله عليه وسلم من كل واحدة منهن حكمة.. إما تعليمية أو تشريعية أو سياسية أو اجتماعية.. ولقد حاولنا أن نتتبع تلك الخيوط ونكشف عنها..
أولا - الحكمة التعليمية
وهي أهم تلك الحكم وأبقاها.. فالحكمة السياسية أو الاجتماعية في حياة أمهات المؤمنين ربما انتهت بانتهاء أسبابها.. أما الحكمة التعليمية فباقية، فهي الموصولة بمنبع العلم.. الناشرة عرفه في المجتمع الإسلامي.. النافذة إلى كل امرأة وفتاة في ذلك العصر.. الباقية أثرا يُقتدى به في كل العصور..
· تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فعلّمها كيف تغتسل، ثم قال لها: خذي فرصة ممسكة (أي قطعة من القطن بها أثر الطيب) فتطهري بها.. قالت: كيف أتطهر بها..؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف يا رسول الله أتطهر بها؟ فقال لها: سبحان الله تطهري بها..!! قالت السيدة عائشة: فاجتذبتها من يدها، فقلت: ضعيها في مكان كذا وكذا، وتتبعي بها أثر الدم، وصرحت لها بالمكان الذي تضعها فيه.
· وفي حديث أم سلمة قالت: جاءت أم سليم (زوج أبي طلحة) رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن الله لايستحي من الحق.. هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء.
فقالت أم سلمة (أم المؤمنين): لقد فضحت النساء، ويحك أوَ تحتلم المرأة؟ فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إذاً فبمَ يشبهها ولدها..؟
وكان المؤمنات يسألنه عن كل ما يعرض لهن على اختلاف درجاتهن في الحياء حتى كان بعضهن يشكو إليه هجر بعولتهن لهن اشتغالا بالتعبد أو لغير ذلك. وكان لا بد من تعليمهن وإنصافهن من بعولتهن.
مثل هذه الأسئلة (الخاصة) كانت تحرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتتولى أمهات المؤمنين شرحها وتبيانها.
· تقول السيدة عائشة: رحم الله نساء الأنصار، ما منعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.. كانت المرأة من هؤلاء تأتي إلى السيدة عائشة رضي الله عنها لتسألها عن بعض أمور الدين، وعن أحكام الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من الأحكام التي تستحي المرأة عادة من ذكرها.. كآداب المعاشرة والجماع والزينة وغيرها..
ومن المعروف أنّ السنة المطهّرة ليست قاصرة على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل تشمل قوله، وفعله، وتقريره.. وكل هذا من التشريع الذي يجب على الأمة اتباعه، فمن ينقل لنا أخباره وأفعاله صلى الله عليه وسلم في المنزل، غير هؤلاء النسوة اللواتي أكرمهن الله فكن أمهات للمؤمنين وزوجات لرسوله الكريم[1] ؟
كان الرجال والنساء يرجعون بعده صلى الله عليه وسلم إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام الدين ولاسيما الزوجية فمن كان له قرابة منهن كان يسألها دون غيرها.
فكان أكثرُ الرواة عن السيدة عائشة رضي الله عنها أختَها أمَّ كلثوم وأخاها من الرضاعة عـوف بـن الحارث، وابن أخيها القاسم وعبد الله ابني محمد بن أبي بكر، وحفصة وأسماء بنتي أخيها عبد الرحمن، وعبد الله وعروة ابني عبد الله بن الزبير من أختها أسماء. وروى عنها غيرهم من أقاربها ومن الصحابة والتابعين وهم كثيرون جدّا.
كذلك كان أكثر الرواة عن السيدة حفصة رضي الله عنها أخاها عبد الله بن عمر وابنه حمزة وزوجه صفية بنت عبيد وأم بشر الأنصارية رضي الله عنهم أجمعين.
وأكثر الرواة عن السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أبناء أخواتها ولاسيما أعلمهم وأشهرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
وأشهر الرواة عن السيدة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها ابنتها حبيبة وأخوها معاوية وعنبسة وابنا أخيها وأختها رضي الله عنهم أجمعين.
أما السيدة صفية بنت حيي رضي الله عنها فقد روى عنها ابن أخيها رضي الله .
وهكذا نرى كل واحدة من أمهات المؤمنين قد روى عنها عِلمَ الدين كثيرٌ من أولي قرباها ومن النساء والرجال الآخرين.
وجملة القول: إن أمهات المؤمنين التسع اللائي توفى عنهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كنّ كلهن معلمات ومفتيات لنساء أمته ولرجالها مما لم يعلمه عنه غيرهن من أحكام شرعية وآداب زوجية، وحكم نبوية[2] .
ثانيا- الحكمة التشريعية
وأوضح مثال لهذه الحكمة التشريعية زواجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أنه قال:
إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنّا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن )ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله( [3] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل.
وقد زوجه عليه السلام بابنة عمته (زينب بنت جحش الأسدية).. ولم يكن زواجا موفقا فقد كانت تعامله بشدة.. ولم تنسَ لحظة أنها ذات الحسب والنسب.. وأنه عبدٌ مملوك قبل أن يتبناه النبي. وطلّق زيد زينب.. فأمر الله رسوله أن يتزوجها ليبطل بدعة التبني ويعيد الأمور إلى نصابها..
وخشي رسول اللهصلى الله عليه وسلم ألسنة المنافقين أن تقول: تزوج محمد امرأة ابنه.. وفي ذلك ما فيه من حرج شديد. تباطأ النبي في تنفيذ ذلك حتى نزلت الآية:
)وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكونَ على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرا، وكان أمر الله مفعولا( [4].
كان لابد من إبطال هذه العادة السيئة.. وإرجاع الأمور إلى نصابها.. فكانت حكمة الله أن يتزوج رسول الله من زينب بنت جحش..
روى البخاري بسنده أن زينب رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهليكنّ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات..
ثالثا- الحكمة الاجتماعية
وهذه الحكمة تتجلى في أمرين..
الأمر الأول: أنه صلى الله عليه وسلم وثّق صلاته بالمصاهرة مع أقرب أصحابه إليه، فقد تزوج عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنه الذي قال فيه رسول الله: ما لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافيناه بها، ماخلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافيه الله تعالى بها يوم القيامة..
وتزوج من حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. فكان ذلك قرة عين لأبيها عمر على صدقه وإخلاصه، وتفانيه في سبيل هذا الدين، وعمر هو بطل الإسلام، الذي أعزّ الله به الإسلام والمسلمين، ورفع به منار الدين.. فكان اتصاله عليه السلام به عن طريق المصاهرة خير مكافأة له على ما قدم في سبيل الإسلام [5].
وكذلك زوج بناته من عثمان وعلي رضي الله عنهما..
وهكذا وثّق رسول الله صلاته الاجتماعية عن طريق المصاهرة بأكرم طبقة من الصحابة وأعظمهم دورا في خدمة الدعوة..
الأمر الثاني: هو الدور الذي لعبته أمهات المؤمنين في توعية النساء ورفع مستواهن.. وحثّهن على المطالبة بحقوقهن.. فكنّ بحق زعيمات الإصلاح الاجتماعي في المجتمع المسلم.
كان الناس يترسمون في معاملة أزواجهم ما يفعله النبي، وكان صلى الله عليه وسلم معهن ليّن الجانب حلو العشرة سهل
المقادة، كن يراجعنه في كثير من أموره، ويرددن عليه حتى صرن قدوة يقتدي بها بقية النساء، فإذا أنكر زوج حق زوجته في مراجعته احتجت عليه بعمل الرسول فأسكتته، وما أطرف حديث عمر بن الخطاب يقص فيه ما جرى له معهن، ويصف هزيمته وكيف انكسر لهن، على رغم شدّته، قال:
والله إن كنّا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم، فبينا أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا. فقلت لها: ومالكِ أنت ولما هنا؟ وما تكلفك في أمر أريده؟
فقالت لي: عجبا لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تُراجعَ أنت وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظلّ يومه غضبان. فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة، فقلت لها: يا بنية إنك لتراجعين رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان؟
فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه. فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. ثم خرجت حتى أدخلَ على أم المؤمنين أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها فقالت لي:
عجبا لك يا ابن الخطاب: قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه؟ فأخذتني أخذا كسرتني به عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها [6]..
لقد ارتفعت مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي.. وكانت أمهات المؤمنين رائدات التغيير في ذلك المجتمع قريب العهد من الجاهلية.
كانت السيدة عائشة رضي الله عنها زعيمة الآخذين بناصر المرأة، والمنافحين عنها بلا منازع، وإليها وحدها تتطلع أبصار المستضعفات، لما تمّ لها من المكانة الكبيرة في العلم والأدب والدين، حتى تقطعت دون مقامها الأعناق، وكانت أستاذة لمشيخة الصحابة الأجلاء في كثير من أمور العلم والدين.
ولبث الخلفاء الراشدون يرعون منزلتها ويشاورونها ويسألونها المسائل ويرجعون إلى رأيها، وهي واقفة بالمرصاد لكبارهم: تصحح لهم كلما رأت خطأ في حديث يحدثون به أو حكم يصدرونه. وقد ألّف الزركشي كتابا قائما برأسه على الأمور التي استدركتها عائشة على أعلام الصحابة.
عدل سابقا من قبل في الإثنين نوفمبر 26, 2007 8:19 am عدل 1 مرات