صفـة الأبوة لدى النبي
محمد فتح الله گولن
كان النبي صلى الله عليه وسلم ذروة في كل وحدة
من وحدات الحياة وفي كل أمر فيها. وعندما يريد الناس البحث عنه يجب ألا يبحثوا
عنه في مستواهم ولا في مستوى عظماء عصره، بل عليهم أن يبحثوا عنه في أعلى الذرى
وأن يطيروا بخيالهم فوق هذه الذرى لكي لا يخطئوا فيقصروا في فهم قدره الحقيقي.
أجل، من أراد البحث عنه، عليه أن يبحث عنه في أُفقه، وليس بين كل مستويات
الأشخاص العاديين من أمثالنا، ذلك لأن الله تعالى وهبه قابليات كبيرة في كل
ساحة.
عاش فخر الإنسانية مثل شمس ساطعة ثم غرب، فلم
تر الإنسانية مثيلا له من قبل، ولن تراه من بعد، وكما لم تر الإنسانية هذا، كذلك
لم يره معاصروه والقريبون منه، وربما لم يدرك الكثيرون آنذاك غروبه إلا بالوحشة
التي أحسوها في قلوبهم بعده، كمثل الزهرة المتعلقة حياتها بضوء الشمس لا تحس
بغروب الشمس إلا بعد إحساسها بالذبول جراء انقطاع ضوء الشمس عنها.. أحسوا
بالوحشة ولكن الأمر كان قد فات وانقضى.. ومن الطبيعي أن عدد من يفهمونه ويعرفونه
في أمته يزداد يوما بعد يوم، وعلى الرغم من مرور 14 قرنا فلا نزال نقول
“أُمُّنا” لخديجة، ولعائشة ولأم سلمة ولحفصة رضي الله عنهن جميعا، ونحس بلذة
وببهجة من هذا القول أكثر من لذتنا عندما نخاطب أمهاتنا، ولا شك أن الشعور بهذه
اللذة وبهذه البهجة كان أعمق في ذلك العهد وأكثر حرارة وإخلاصا، وذلك من أجله
صلى الله عليه و سلم، لذا.. نرى أبا بكر رضي الله عنه يخاطب ابنته عائشة قائلا
لها: "يا أمي" لأن الآية الكريمة تقول {وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب:
أمي".
كل هذا الحب وهذا التقدير الذي أحاط بهن لم يكن
يجدي في إزالة حزنهن وألمهن من فراقه صلى الله عليه و سلم، ولم تستطع الأيام
الحلوة التي أتت بعد أيام الفتوحات أن تقلل هذا الحزن العميق في قلوبهن.. بل
استمر هذا الحزن حتى غروب حياة كل واحدة منهن، وكما كان زوجا مثاليًّا لزوجاته،
فقد كان أبا مثاليًّا أيضا.. وعلى المقياس نفسه كان جدَّ مثاليٍّ لا يوجد له
نظير أو شبيه.
كان يعامل أولاده وأحفاده بحنان كبير، ولم يكن
ينسى وهو يعطي كل هذا الحنان أن يوجه أنظارهم إلى الآخرة وإلى معالي الأمور، كان
يضمهم لصدره ويبتسم لهم ويداعبهم، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن يغض طرفه عن أي
إهمال لهم حول شئون الآخرة، وكان في هذا الأمر واضحا جدا وصريحا جدا، ووقورا
ومهيبا وجادًّا فيما يتعلق بصيانة العلاقة بينه وبين خالقه.
فمن جهة كان يعطي الحرية لهم ويرشدهم إلى طرق
العيش بشكل يليق بالإنسان، ومن جهة أخرى كان لا يسمح بانفلات الانضباط أو سلوك
طريق اللامبالاة. ويبذل كل جهوده وبكل دقة لمنع إصابتهم بأي تعفن خلقي، ويهيئهم
لعوالم علوية وللحياة الأخروية، وفي أثناء هذه التربية كان الرسول صلى الله عليه
و سلم يحذر من الوقوع في الإفراط أو التفريط، بل يختار الطريق الوسط ويمثل
الصراط المستقيم، وكان هذا بُعدا آخر من أبعاد فطنته.
1. شـفـقـتـه على أولاده وأحـفاده
روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه الذي خدم
رسول الله صلى الله عليه و سلم عشر سنين أنه قال: "ما رأيت أحدًا كان أرحم
بالعيال من رسول الله صلى الله عليه و سلم".[1] أجل، كان يتصرف بشفقة ورحمة وعن عاطفة حقيقية
نابعة من صميم قلبه بحيث لم يكن بوسع أحد أن يكون مثيلا له لا في مجال رئاسته
للعائلة ولا في مجال أبوته.
ولو كان هذا كلاما صادرا منا فقط لكان من
الممكن بقاء أهميته محدودة، إلا أن الملايين من أمته التي تعمقت الرحمة والشفقة
في قلبها إلى درجة التورع عن إيذاء نملة.. هذه الملايين كلها تعلن وتعترف بأنه
لم يكن هناك مثيل له صلى الله عليه و سلم في احتضانه الوجود كله بشفقته ورحمته،
صحيح أنه خلق بشرا من البشر، ولكن الله تعالى ألهمه ووضع في قلبه عاطفة الاهتمام
بالوجود كله لكي يوطد علاقته مع الناس أجمعين، ولهذا كان رسول الله صلى الله
عليه و سلم مشحونا بعاطفة قوية وباهتمام كبير تجاه أفراد بيته وتجاه الناس
الآخرين وكل شيء في الكون.
وتوفي أولاده الذكور في حياته،[2] وقد ولدت له أمنا مارية رضي الله عنها ولدا
ذكرا فتوفي كذلك، وكان هذا آخرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخصص
لهم وقتا من بين مشاغله الكثيرة والمهمة فيذهب إلى مرضعة ابنه ويحتضن ابنه
ويقبله ويداعبه ويشمه ويظهر له علامات حبه له،[3] وعندما توفي ابنه احتضنه أيضا وقد ملأت الدموع
عينيه، ثم قال وهو ينظر إلى المستغربين لحزنه: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا
نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.» وفي حديث آخر: «إن
الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا» وأشار إلى لسانه.[4]
لقد كان –صلى الله عليه وسلم- أرحم الناس
وأكثرهم شفقة وحنانا، فكان الحسن والحسين رضي الله عنهما يركبان على ظهره ويطوف
بهما أرجاء المنزل أو في المسجد، هل تتصورون شخصا في هذا المستوى يأخذ حفيده على
ظهره ويكون لهما فرسا أمام الآخرين..؟ أما هو فكان يفعل هذا وكأنه كان يريد
إظهار وإعلام الموقع الممتاز الذي سيناله كل من الحسن والحسين رضي الله عنه، وفي
أحد الأيام وبينما كان الحسن والحسين رضي الله عنه على ظهره دخل عليه عمر بن
الخطاب رضي الله عنه فقال لهما: نِعْمَ الفرس تحتكما، فقال الرسول صلى الله عليه
و سلم: «نعم الفارسان هما.»[5]
يجوز أن الحسن والحسين رضي الله عنهما فهما ما
قاله أو لم يفهما؛ ولكنه كان يمدحهما هكذا، وفي إحدى المرات عندما قال أحدهم
للحسن رضي الله عنه وهو على عاتق النبي صلى الله عليه و سلم: يا غلام! نعم
المركب ركبت. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «ونعم الراكب هو.»[6] وعن جابر قال: دخلت على النبي صلى الله عليه و
سلم وهو يمشي على أربعة وعلى ظهره الحسن والحسين رضي الله عنهما وهو يقول: «نعم
الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما.»[7]
ولا شك أن لجميع أهل البيت ولجميع الأولياء
نصيب من هذا الاهتمام، لقد كانت هذه هي منزلة أولاده وأحفاده عنده، فدخل حبه إلى
قلوبهم وأصبح مظهرًا وموضعًا لحب يتجاوز علاقة الأبناء والأحفاد.
2. التوازن الجم في التربية:
وكما كان صلى الله عليه و سلم في جميع الأمور
وسطا، فقد سلك رسول الله صلى الله عليه و سلم الطريق الوسط في موضوع تربية
الأطفال، فقد كان يحب أولاده وأحفاده حبًّا جمًّا، ويُشعِر هذا الحب لهم، ولكنه
لم يكن يسمح بأي استخدام سيء لهذا الحب، هذا علما بأنه لم يكن يوجد بين أولاده
وأحفاده من يحاول هذا أصلا، غير أنه عندما يقومون بتصرف خاطئ من دون عمد نرى مِن
تصرّف رسول الله صلى الله عليه و سلم وكأن ضبابا من الوقار لف هذا الحب العميق.
وبسلوك ملأه الدفء يسعى لمنعهم من التجول في
مناطق الشبهات؛ فمثلا مد الحسن رضي الله عنه -وهو طفل صغير- يده إلى تمر صدقة،
فأسرع رسول الله صلى الله عليه و سلم وانتزع تلك الثمرة من فيه قائلا له: «أما
علمتَ أن الصدقة لا تحل لآل محمد.»[8] فقد رباهم منذ الصغر على التوقي من الحرام
وإبداء منتهى الحساسية في هذا الموضوع، وهذا من أفضل الأمثلة على إقامة التوازن
التربوي منذ الصغر، وفي كل مرة كان يدخل فيها المدينة كنت تراه وقد ركب معه على
مركبه بعض الصبيان ملتفين حوله،[9] فلم يقصر رسول الله صلى الله عليه و سلم حبه
على أولاده وعلى أحفاده فحسب، بل على أولاد وصبيان جيرانه وغير جيرانه أيضا.
لم يكن أولاده الذكور وأحفاده هم الداخلين فقط
ضمن دائرة حبه وحنانه، فقد كان يحب حفيدته أُمامة مثلما يحب حفيده الحسن أو
الحسين رضي الله عنه فكثيرا ما شوهد وهو يخرج من البيت وعلى كتفه أُمامة، وكان
يحملها أحيانا على ظهره وهو في صلاة النافلة فإذا ركع وضعها على الأرض وإذا قام
رفعها،[10] كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يظهر حبه
لأُمامة في مجتمع كان الناس فيه حتى عهد قريب يئدون البنات، لذا.. كان هذا
التصرف منه تصرفا جديدا غير مسبوق من قبل أحد آنذاك.
3. حـبـه وحنانه تجاه فاطمة رضي الله
عنها
ليس في الإسلام تفاضل بين الذكر والأنثى، وهذا
هو ما أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، ففاطمة هذه كانت ابنته وأم أهل
البيت حتى يوم القيامة وهي والدتنا، كانت فاطمة عندما تقبل على رسول الله صلى
الله عليه و سلم وتزوره يقوم لها ويأخذ بيدها ويجلسها بجانبه ويسأل عنها وعن
أحوالها ويظهر حبه لها، وعندما تقوم يقوم معها ويودعها بكل لطف.[11]
رغب علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرة في
الزواج من بنت أبي جهل، صحيح أن هذه المرأة كانت قد دخلت الإسلام مثل أخيها
عكرمة فالتحقت بقافلة النور؛ ولكن هذا الزواج كان من الممكن أن يضايق فاطمة رضي
الله عنها، ويجوز أن عليا رضي الله عنه لم يخطر على باله قط أن فاطمة يمكن أن
تستاء من مثل هذا الزواج، ولكن عندما أتت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم تخبره بالأمر وتظهر حزنها حتى همه أمرها صعد المنبر وقال: «إن بني هشام بن
المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، فلا آذن لهم ثم لا آذن
لهم ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما
ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.» .[12]وكان علي رضي الله عنه من بين المستمعين
فتراجع عن نيته تلك وعاد إلى فاطمة رضي الله عنها.[13]
ولا شك أن عليا رضي الله عنه كان يعز بنت رسول
الله صلى الله عليه و سلم معزة كبيرة، وكانت فاطمة رضي الله عنها تعرف هذا جيدا
لذا، كانت تحبه أكثر من نفسها، والحقيقة أن هذه المرأة الرقيقة كانت تبدو وكأن
وظيفتها في الحياة هي أن تكون بذرة لكل الأولياء والأصفياء، فكان جل اهتمامها
منصبا على والدها وعلى دعوته، وعندما أخبرها والدها -وهو في أواخر أيام حياته- بأنه
سيتوفى سبحت في بحر من الدموع، ولكن عندما أخبرها بأنها ستكون أول من يلتحق به
غمرها الفرح والحبور.[14]
أجل، لقد كان والدها يحبها كثيرا وكانت بدورها
تبادله الحب العميق. ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عندما يحبها يعرف
كيف يحفظ التوازن ويعدُّها لكي يوصلها إلى العالم الذي يجب أن ترتفع الأرواح
وتسمو إليه، ذلك لأن الرفقة الأبدية لا تكون إلا هناك، ولم يترافق رسول الله صلى
الله عليه و سلم وابنته في الحياة سوى خمسة وعشرين عاما، إذ توفيت فاطمة رضي
الله عنها بعد ستة أشهر فقط من وفاة والدها، وكان عمرها آنذاك خمسة وعشرين عاما
فقط.[15]
4. تـهـيـئـة أولاده للحياة
الأبدية
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يطلب الحياة
الأبدية، أي يطلب ما تطلبه الفطرة التي أودعها الله في الناس جميعا... أجل، إن
الإنسان للخلود، وليس في الإمكان إشباع هذا الإنسان إلا بالحياة الخالدة، وصاحب
هذه الحياة الخالدة لا يطلب شيئا غيرها، وسواء أشعر بذلك أم لم يشعر فإنه لا
يطلب غيرها ولا يرغب في سواها، ومهما أعطيت هذا الإنسان فلن تستطيع إشباعه إلا
عندما تعطيه الحياة الخالدة... ذلك لأن للإنسان آمالا لا نهاية لها ورغبات لا
تحد ولا تحصى، لذا فلن تستطيع إشباع هذا الإنسان مهما أعطيته، وهذا هو السبب في
أن أساس رسالات جميع الأنبياء والمرسلين قائم على هذا النظام ذي البعد الأخروي،
وعلى هذا الاعتبار فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما كان يحمل لهم باقات
السكينة والطمأنينة فإنه لم يكن ليهمل أبدا تهيئتهم للسعادة الأبدية والطمأنينة
الأبدية، ويمكن رؤية هذا بكل وضوح في الحادثة التالية:
جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى
الله عليه و سلم وفي عنقها سلسلة من ذهب فقال لها: «يا فاطمة! أيغُرُّكِ أن يقول
الناس ابنة رسول الله وفي يدها سلسلة من نار.» ثم خرج ولم يقعد، أجل.. فمن جهة
كان يعزها، ومن جهة أخرى كان يعدها للحياة الأخروية الخالدة ويوجهها نحو الله
وتكملة الحادثة هي: فأرسلت فاطمة بالسلسلة إلى السوق فباعتها واشترت بثمنها
غلاما فأعتقته، فحُدِّث بذلك فقال: «الحمد لله الذي أنجى فاطمة من النار.»[16] 6). نعم، لقد كان أبو بكر رضي الله عنه يقول لابنته التي رباها في حجره "يا