بسم الله الرحمن الرحيم
مخطوطات البحر الميت
مخطوطات البحر الميت 7-16
احمد عثمان
أثار الإعلان عن اكتشاف مخطوطات عبرية وآرامية قديمة بمنطقه قمران في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حماس الباحثين في تاريخ الكتب المقدسة، وراحوا ينتظرون العثور بينها على المعلومات التي يمكن أن تزيل الغموض عن مرحلة هامة من التاريخ الإنساني. ذلك أن أقدم نسخة عبرية موجودة الآن من كتب العهد القديم ترجع إلى القرن العاشر بعد الميلاد، وهى تتضمن اختلافات عديدة عن النسخة السبعينية اليونانية التي ترجمت في الإسكندرية خلال القرن الثالث قبل الميلاد. أيهما أكثر صحة عند الاختلاف؟ و أيهما يمكن الاعتماد عليه؟ ولا يتوقف الأمر على الجماعات اليهودية، فإن الكنائس المسيحية تعتبر العهد القديم جزءا من كتابها المقدس، وبينما كان المسيحيون حتى القرن العاشر يستخدمون الترجمة السبعينية اليونانية فهم قد تحولوا عنها- باستثناء الكنيسة اليونانية- إلى ترجمة النسخة العبرية منذ القرن العاشر.
كما أن المعلومات التي وصلتنا عن السيد المسيح جاءت كلها من كتابات كتبت بعد نصف قرن من الوقت الذي حددته لوفاته. وليس هناك نص واحد- ولو صغير- جاء فيه ذكر المسيح في المصادر التاريخية المعاصرة للفترة التي قيل إنه عاش فيها، بليجعله فيلعهد الجديد نفسها- وهى المصدر الوحيد عن تاريخ يسوع- تعطينا معلومات متضاربة في شأن حياته، ومماته فبينما يذكر إنجيل متي أن مولده كان أيام حكم الملك هيرودوس، الذي مات في العام الرابع قبل الميلاد، فإن إنجيل لوقا يجعل مولده في عام الإحصاء الروماني، أي في العام السادس بعد الميلاد. والخلاف قائم كذلك على تمديد الوقت الذي انتهت فيه حياته الأرضية " فبحسب ما ورد في الأناجيل من معلومات، هناك من يجعله في العام الثلاثين أو في العام الثالث والثلاثين أو السادس والثلاثين.
و بينما كان الاعتقاد سابقا بأن كتبة الأناجيل كانوا هم أنفسهم من تلاميذ المسيح وحوارييه الذين عاصروه وكانوا شهودا على ما كتبوه من معلومات، فقد تبين في العصر الحديث أن أحدا منهم لم يره، وأنهم جميعا اعتمدوا في رواياتهم على ما سمعوه عن آخرين أو ما فسروه من الكتابات القديمة.
و على هذا فإن العثور على كتابات قديمة، سابقة ومعاصرة للفترة التي عاش فيها المسيح عيسى، وفى منطقة لا تبعد إلا بضعة كيلومترات عن مدينة القدس التي قيل إنه مات فيها، قد أنعشى الآمال في وجود معلومات بها تحل هذه الإلغاز وتبين حقيقة الأمر في تاريخ مؤسس الديانة المسيحية، وعلاقته بالجماعات اليهودية الموجودة في عصره، وزاد الحماس عندما تم نشر الأجزاء الأولى من المخطوطات في الستينات، وتبين أنها تنتمي إلى جماعة يهودية/ مسيحية تعرف باسم العيسويين، وانه كان لهم معلم يشبه في صفاته عيسي المسيح. إلا أن الحماس الذي سار بين الباحثين والقراء قابله قلق وخشية من جانب السلطات الدينية- وما يتبعها من هيئات أكاديمية- لدى كل من الطوائف اليهودية والمسيحية وليست دواعي هذا القلق تتعلق بالخوف من أن المعلومات المكتشفة قد تؤدى إلى إضعاف إيمان المؤمنين، فهذه كتابات دينية قديمة، وإنما ساد القلق بسبب ما قد تكشفه هذه النصوص من تغيير وتبديل- ليس فقط في حقائق التاريخ القديم- و إنما في تفسير النصوص الدينية وفى مغزاها كذلك. ولهذا فمنذ ان استولت السلطات الإسرائيلية على مدينة القدس القديمة بعد حرب يونيو 1967 توقفت لأعمال نشر المخطوطات تماما، ولا يزال هناك ما يزيد عن نصفها غير منشور بل إن السلطات الإسرائيلية في محاولة منها لإسكات الأصوات التي ارتفعت في العالم كله- وكانت أقواها لصوت الباحثين اليهود أنفسهم- قد عمدت إلى القيام بتمثيلية مرسومة للتخلص من هذا الإلحاح، فقد أرسلت سلطات الآثار الإسرائيلية صورا فوتوغرافية، زعمت أنها تمثل كل المخطوطات المجودة في متحف روكفلر بالقدس، إلى جامعة أكسفورد البريطانية وكذلك إلى إحدى الجامعات الأمريكية، وتظاهرت السلطات الإسرائيلية بالغضب والاحتجاج عندما قامت هذه الجامعات بترجمة ونشر الصور التي في حوزتها، بدون تصريح رسمي من إسرائيل.
و كان الهدف من هذه التمثيلية هو الإيحاء بأن كل نصوص المخطوطات قد تم ترجمتها ونشرها، ولم يعد هناك مبرر لمطالبة السلطات الإسرائيلية بالكشف عما في حوزتها من كتابات. ومن المؤكد أن هناك بعض النصوص وبعض القصاصات التي لم تترجم بعد، والتي يراد لها الاختفاء تماما في ذاكرة النسيان مرة أخرى، إلا أن الجزء الذي كان قد نشر في البداية " يكفي كي يبين لنا طبيعة الأسرار التي يحرص البعض على عدم الكشف عنها، وهذا هو ما سنقوم به في هذه الحلقات.
يطلق اسم (مخطوطات البحر الميت) على مجموعات المخطوطات القديمة التي تم العثور عليها في ما بين 1947 و 1956 داخل كهوف الجبال الواقعة غربي البحر الميت، في مناطق قمران ومربعات وخربة ميرد وعين جدى ومسادا. وكان العثور خاصة على منطقة قمران- أو عمران- بالضفة الغربية للأردن، على بعد عدة كيلومترات جنوبي مدينة أريحا منذ ما يقرب من نصف قرن أثر عميق على تفكير الباحثين اليهود والمسيحيين في العالم كله، أدى بلا شك إلى تغير كبير في العديد من الاعتقادات التي كانت قائمة في فلسطين، و مع هذا فنحن لا نزال في بداية الطريق، ولن تظهر النتائج الكاملة لاكتشاف مكتبة قمران إلا بعد أن تنشر كافة النصوص وتظهر دلالاتها الدقيقة أمام الباحثين.
لم تكد الحرب العالمية الثانية تنتهي، عندما تم العثور على الكهف الأول في ربيع 1947 بالقرب من البحر الميت، وكانت فلسطين لا تزال تحت الحماية البريطانية وما تزال مدينة القدس والضفة الغربية في أيدي الفلسطينيين. فقد أضاع الصبي محمد ا الديب إحدى الماعز من قطيعه، وكان ينتمي إلى قبيلة التعامرة التي تتجول في المنطقة الممتدة بين بيت لحم والبحر الميت. وصعد الصبي فوق الصخر باحثا على معزته، فشهد فتحة صغيرة مرتفعة في واجهة سفح الجبل، وعندما ألقى محمد بحجر داخل هذه الفتحة سمعها تصطدم بمادة فخارية في الداخل، فأعاد الكرة وألقى بعدة أحجار أخرى، وكان في كل مرة يسمع ذات الصوت الذي يحدث عند ارتطام الأحجار بالفخار. عند هذا تسلق محمد سفح الجبل و أطل برأسه داخل الكوة، واستطاع في ظلام الكهف أن يشاهد عددا من الأوعية الفخارية مصفوفة على أرضية الكهف. وفى صباح أليوم التالي عاد محمد ومعه أحد أصدقائه إلى موقع الكهف، الذي ساعده على الصعود إلى الكوة و الدخول منها إلى الكهف، الذي عثر بداخله على عدة أوعية فخارية بداخلها لفافات تحتوى علي سبع مخطوطات.
و سرعان ما ظهرت المخطوطات معروضة للبيع عند تاجر للأنتيكات في بيت لحم عرف باسم كاندو، الذي باعها لحساب التعامرة، فقام مار أثاناسيوس صموئيل - رئيس دير سانت مارك للكاثوليك السوريين - بشراء أربع مخطوطات بينما اشترى الأستاذ إليعازر سوكينوك الثلاث الباقية لحساب الجامعة العبرية بالقدس. ولما قامت الحرب العربية الإسرائيلية على أثر إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 في 15 مايو، خشي أثاناسيوس على مصير المخطوطات التي اشتراها، فأرسل المخطوطات الأربع إلى الولايات المتحدة لعرضها للبيع هناك إلا أنه في النهاية وافق على بيعها مقابل ربع مليون فقط، عندما اشتراها إيجال يادين - ابن الأستاذ سوكينوك - لحساب الجامعة العبرية في القدس. وهكذا أصبحت المخطوطات السبع الأولى في حوزة الجامعة العبرية الإسرائيلية.
و عندما تم إعلان الهدنة بين الدول العربية وإسرائيل في 7 يناير 1949، أصبحت منطقة قمران والثلث الشمالي من منطقة البحر الميت تحت سيطرة المملكة الأردنية الهاشمية. وبدأ الأردنيون ينظمون عمليات أثرية للبحث عن المخطوطات، وكان التعامرة يحتفظون بموقع الكهف سراً لا يبيحون به لأحد، فتمكن الجيش الأردني من العثور على الكهف في نهاية يناير 1949.
بعد ذلك نظم ا لأردنيون عمليات تنقيب داخل الكهف، بإشراف هاردنج البريطاني، وكان يشغل مدير الآثار الأردنية، والكاهن رولآند دى فو، الذي كان مديراً للإيكول بيبليك دى فرانس بالقدس الشرقية. وعثر الأثريون على مئات القصاصات الصغيرة داخل الكهف ،إلى جانب قطع من الفخار والقماش والخشب ، ساعدت في تحديد تاريخ المخطوطات . إلا ان عمليات التنقيب الأثرية لم تبدأ في بقايا خربة قمران - التي تقع أسفل الكهف - إلا في نوفمبر 1951، حيث تم العثور على أطلال القرية القديمة التي عاش بها العيسويون وبها بقايا رومانية من بينها عملات نقدية، يشير تاريخها على ان هذا الموقع كان مسكوناً إلي ان قامت حركة التمرد اليهودية ضد الرومان في الفترة ما بين 66 و 70 ميلادية، والتي انتهت بحرق مدينة القدس وطرد اليهود من المنطقة المحيطة بها.
و طمعاً منهم في الحصول على الربح المالي، انتشر التعامرة في كل وديان البحر الميت بحثا عن مخطوطات أخرى قد تكون مخبأة في الكهوف العديدة الموجودة في هذه المنطقة الجبلية، وفى فبراير 1952 استطاع البدو العثور على كهف أخر به العديد من المخطوطات التي تحللت إلى قصاصات صغيرة، باعوها إلي السلطات الأردنية. واتبعت سلطات الآثار الأردنية نفس الطريقة التي اتبعها التعامرة في البحث داخل كهوف البحر الميت عن المخطوطات، وانتهي الأمر عام 1956 باكتشاف مجموعة من احد عشر كهفاً في منطقة قمران تم ترقيمها، وبينما عثر التعامرة على أربعة كهوف 1، و 4، و 6، و 11، فإن الآثار الأردنية عثرت على السبعة الباقية.
كان المار أثاناسيوس قد سمح للمدرسة الأمريكية للدراسات الشرقية في القدس - وهي التي قامت بالتحقق من القيمة الأثرية للمخطوطات - بتصوير ونشر المخطوطات الأربع التي في حوزته، وبالفعل قامت ألمدرسه أولا بنشر صور لهذه المخطوطات ما بين 0 195 و 1 95 1، حتى تسمح للباحثين بالإطلاع عليها، ثم تبعت هذا بنشر ترجمة إنجليزية لها. كما قامت الجامعة العبرية بنشر صور المخطوطات اشث التي حصلت عليها مع ترجمة لها عام 1954.
أصبح الأب دى فو هو المسئول عن عمليات البحث الأردنية عن مخطوطات قمران، و بالتالي عن عمليات إعداد وترجمة ونشر النصوص التي عثر عليها، فأوكل قصاصات الكهف رقم 1 إلى " دومينيك بارثيلمى " و" ميليك " اللذين يعملان معه في الإيكول بيبليك دى فرانس، و بالفعل تم إعداد ونشر الترجمة الإنجليزية لها عن جامعة أكسفورد عام 1955. إلا أن الحكومة الأردنية قامت عام 953 1 بتشكيل لجنة عالمية من ثمانية باحثين - ليس بينهم عربي واحد - لتولى عملية إعداد المخطوطات ونشرها برئاسة دى فو، وحضر جميعهم من فرنسا وانجلترا والولايات المتحدة والمانيا إلى القدس للعمل.
بعد ذلك تم عام 1961 نشرت ترجمة المخطوطات التي عثر عليها في كهوف منطقة مربعات ( جنوبي منطقة قمران ) التي ترجمها ميليك، في الجزء الثاني وتتضمن الجزء الرابع المزامير التي وجدت في الكهف رقم 11 عام 965 1، والجزء الخامس القصاصات التي عثر عليها في الكهف رقم 4 عام 1968.
وجدت كهوف في مناطق أخرى غير قمران، عثر بداخلها على مخطوطات قديمة، في مناطق الميرد في الجنوب العربي لقمران ومربعات في الجنوب الشرقي وماسادا، وهي القلعة اليهودية القديمة في المنطقة الخاضعة لإسرائيل في النصف الجنوبي للبحر الميت. فلم يكتف التعامرة بالتنقيب عن المخطوطات في منطقة قمران بل إنهم راحوا يجوبون كل المنطقة الجبلية المطلة على البحر الميت بحثا في كهوفها عن الكنز القديم. وفي أكتوبر 1951 عثر بدو التعامرة علي مخطوطات مكتوية بالعبرية وباليونانية في أحد الكهوف بوادي مربعات - حوالى15 كيلومترا جنوبي كهف قمران الأول -وعرضوها على السلطات الأردنية لشرائها وكذلك عثر التعامرة في نفس الفترة على بعض الكتابات المسيحية في منطقة الميرد القريبة من قمران، من بينها كتابات سريانية، كما قامت بعثة من الأثريين الإسرائيليين - بقيادة إيجال يادين - بالبحث من المخطوطات فيما بين 1963 و965 1، في بقايا قلعة ماسادا بالمنطقة التي تقع تحت سيطرتهم في الجنوب الشرقي من مدينة الخليل، وتم العثور على بعض المخطوطات هناك ولكن الذي يهمنا هنا هو مخطوطات منطقة عمران بالتحديد، التي تركتها طائفة العيسويين، وليس الكتابات اليهودية والمسيحية التي وجدت في باقي المناطق.
نشبت الحرب بين العرب وإسرائيل عام 1967، التي كان من نتيجتها سقوط الضفة الغريبة تحت السيطرة الإسرائيلية، وكذلك متحف القدس الذي به المخطوطات، ولم يفلت من هذا المصير سوي مخطوطة واحدة هي المخطوطة النحاسية لأنها كانت في عمان في ذلك الوقت، وتوقفت حركة النشر تماما بعد ذلك.