مبررات صلب المسيح عند النصارى |
ويقول النصارى في محاولة لتبرير صلب المسيح وربطه بخطيئة آدم: إن الله أراد برحمته أن يخلص الأرض من اللعنة التي أصابتها بسبب معصية آدم، لكن عدله يأبى إلا أن يعاقب أصحاب الذنب،
فكيف المخرج للتوفيق بين العدل والرحمة ؟
فلا يجدون إجابة إلا صلب المسيح البريء نيابة عن البشرية وارثة الخطيئة والأرض الملعونة بسبب آدم!
يلخص أوغسطينوس المسألة بأن الله رحيم، ولا يريد أن يغير قوانين المحكمة، وفيها أن الموت عقوبة عادلة لهذه الخطيئة الأصلية، فاتخذ حيلة ينجي بها عباده، فيموتون ثم يحيون من جديد، فتعود إليهم حريتهم بعد حياتهم الجديدة.
ولما كانت إماتة الناس جميعاً تتعارض مع قانون الطبيعة وسنن الكون، فكان لابد من شخص معصوم من الذنب الأصلي يعاقبه الله بموته، ثم يبعثه، فيكون موته بمثابة موت البشرية وعقوبتها، وقد اختار الله ابنه لهذه المهمة.
ويقول القس لبيب ميخائيل: " إن الله الرحيم هو أيضاً إله عادل، وإن الله المحب هو أيضاً إله قدوس يكره الخطيئة، وإذا تركزت هذه الصورة في أذهاننا.... سندرك على الفور أن صفات الله الأدبية الكاملة لا يمكن أن تسمح بغفران الخطية دون أن تنال قصاصها... فإن الصليب يبدو أمامنا ضرورة حتمية للتوفيق بين عدل الله ورحمته ".
ويؤكد هذه المعاني عوض سمعان في كتابه " فلسفة الغفران " بقوله: " لو كان في الجائز أن تقل عدالة الله وقداسته عن رحمته ومحبته اللتين لا حد لهما، فإن من مستلزمات الكمال الذي يتصف به، أن لا يتساهل في شيء من مطالب عدالته وقداسته، وبما أنه لا يستطيع سواه إيفاء مطالب هذه وتلك، إذن لا سبيل للخلاص من الخطيئة ونتائجها إلا بقيامه بافتدائنا بنفسه ".
فالمسيح المتأنس غير مولود من الخطيئة، ومسارٍ لقيمة جميع الناس، فكان الفدية التي اصطلح فيها الله مع الإنسانية.
ويقول حبيب جرجس في كتابه "خلاصة الأصول الإيمانية":" ولما فسد الجنس البشري، وصار الناس مستعبدين للخطيئة، وأبناء للمعصية والغضب لم يتركهم الله يهلكون بانغماسهم فيها،
بل شاء بمجرد رحمته أن ينقذنا من الهلاك بواسطة فادٍ يفدينا من حكم الموت، وهذا الفادي ليس إنساناً ولا ملاكاً ولا خليقة أخرى،
بل هو مخلصنا وفادينا ابن الله الوحيد، ربنا يسوع المسيح الذي له المجد إلى أبد الآبدين ".
ويؤكد القس جولد ساك على أهمية القصاص فيقول: " لابد أن يكون واضحاً وضوح الشمس في ضحاها لأي إنسان بأن الله لا يمكنه أن ينقض ناموسه، لأنه إذا فعل ذلك من الذي يدعوه عادلاً ومنصفاً ".
إذن لابد من العقوبة حتى تحصل المغفرة. وفي ذلك يقول بولس صانع فكرة الفداء: " وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة " ( عبرانيين 9/22 ).
ويقول: " لأنكم قد اشتريتم بثمن، فمجدوا الله في أجسادكم، وفي أرواحكم التي هي لله " (كورنثوس (1) 6/20 )، ويقول: " أجرة الخطية هي موت " ( رومية 6/23 ).
ويقول: " لأنه وإن كنا ونحن أعداء فقد صولحنا مع الله بموت ابنه " ( رومية 5/10 ).
ويقول بطرس: " عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى: بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حَمَلٍ بِلاَ عيْب، ولا دنس دم: المسيح " ( بطرس (1) 1/18 - 19).
ويعتبر النصارى فداء المسيح للبشرية العمل الحقيقي للمسيح والذي من أجله تجسد وتأنس، يقول الأنبا أثناسيوس: " فالمسيح هو الله غير المنظور، وقد صار منظوراً، ولماذا صار منظوراً، لينجز مهمة الفداء والخلاص، التي ما كان يمكن لغير الله أن يقوم بها، فالله قد تجسد في المسيح من أجل الفداء والخلاص، فالفداء كان هو الغاية، والتجسد كان هو الوسيلة "
نقد مبررات النصارى لضرورة الصلب التكفيري
ويرى المسلمون في هذا الفكر النصراني انحرافاً وتجافياً عن المعقول والمنقول، فإن فيه إساءة أدب مع الله وكفراً به، كان ينبغي أن ينزهه النصارى عنه، فقولهم بتناقض العدل مع الرحمة قروناً حتى جاء الحل بصلب المسيح رحمة من الرب بالعالمين.
وتظهر العقيدة النصرانية الله عز وجل عاجزاً عن العفو عن آدم وذنبه، حائراً في الطريقة التي ينبغي أن يعاقبه بها بعد أن قرر عقوبته.
ويظهر قرار العقوبة وكأنه قرار متسرع يبحث له عن مخرج، وقد امتد البحث عن هذا المخرج قروناً عديدة، ثم اهتدى إليه بعدُ، فكان المخرج الوحيد هو ظلم المسيح وتعذيبه على الصليب كفارة عن ذنب لم يرتكبه.
ويشبه النصارى إلههم وقتذاك بصورة مستقذرة، بصورة المرابي وهو يريد عوضاً على كل شيء، ونسي هؤلاء أن الله حين يعاقب لا يعاقب للمعاوضة أو لإرضاء نفسه، بل لكبح الشر وتطهير الذنب، وعليه فإن جهنم أشبهت مستشفىً للمرضى بالأضغان والأحقاد والنفاق إلى غير ذلك من كبائر الآثام.
وقد فات الفكر النصراني وجود بدائل كثيرة مقبولة ومتوافقة مع سنن الله الماضية في البشر، وهي جميعاً أولى من اللجوء إلى صلب المسيح تكفيراً للخطيئة ووفاءً بسنة الانتقام والعدل بالمفهوم النصراني.
ومن هذه البدائل: التوبة، والمغفرة والعفو، ومنها العفو بصك غفران لا يزيد سعره على بضع دولارات، ومنها الاكتفاء بعقوبة الأبوين على جريمتهما، وكل ذلك - عدا المغفرة بالدولارات - من سنن الله التي يقرها الكتاب المقدس.
التوبة من الذنب كفارة له
فلئن كان ثمة تنازع بين الرحمة والعدل- كما يزعم النصارى - فإن من أهم مخارج المسألة التوبة التي ذكر الله في القرآن أن آدم صنعها، وهي باب عظيم من أبواب فضل الله، جعله للخاطئين.
التوبة تغسل الذنب وتنقي القلب، فيكون الخاطئ التائب حبيباً إلى الله، فلم لا يقول النصارى بأن آدم تاب وقبلت توبته، لم يصرون على القصاص، ولم يصر مقدسهم بولس أنه " بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" ( عبرانيين 9/22 ).
لقد تحدثت نصوص التوراة والإنجيل بإسهاب عن التوبة وقصصها قبول الله لها.
فها هو المسيح يجلس مع العشارين والخطاة، فيتذمر الفريسيون والكتبة لذلك قائلين: " هذا يقبل خطاة ويأكل معهم " ( لوقا 15/2 ) فأراهم المسيح حرصه على التوبة وفرحة الله بالتائب "وكلمهم بهذا المثل قائلاً: أي إنسان منكم له مائة خروف وأضاع واحداً منها، ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال، حتى يجده،
وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً ويأتي إلى بيته، ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم: افرحوا معي، لأني وجدت خروفي الضال.
أقول لكم: إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب... " ( لوقا 15/3-7 )، وعليه فالتوبة مقبولة عند الله كوسيلة للخلاص من الذنب، ولا تتناقض مع قدر الله القاضي بالقصاص من العاصي.
كما ضرب للتوبة وأهلها ومنزلتها مثلين آخرين، فقد شبههم الفرح بالتائب بالفرح بعودة الابن الضال والعثور على الدرهم الضائع. ( انظر لوقا 15/8 - 32 ).
ولقد وعد الله التائبين بالقبول ففي حزقيال " فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي وفعل حقاً وعدلاً، فحياة يحيا، لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه، بره الذي عمل يحيا، هل مسرة أسر بموت الشرير" (حزقيال 18/21-23).
وفي إشعيا يؤكد الوعد فيقول: " ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره، وليتب إلى الرب فيرحمه، وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران" (إشعيا 55/7)، فالرب الحليم الرحيم يعد عباده العاصين بالرحمة حال توبتهم، من غير أن يتناقض عدله مع رحمته، إذ هو يفعل ما يريد.
ويقول يوحنا المعمدان مخاطباً اليهود مذكراً إياهم بأهمية التوبة: " يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً " (متى 3/7 -9)، فالتوبة هي الطريق، وليس النسب كما ليس الفداء.
تقول التوراة: "فإذا تواضع شعبي الذين دعي اسمي عليهم وصلّوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الردية، فإنني أسمع من السماء " (الأيام (2) 7/14).
ولكن ورغم هذا كله يقول عوض سمعان: " فالتوبة مهما كان شأنها ليست بكافية للصفح عما مضى من خطايانا ".
إذاً لماذا أكدت النبوات عليها وعلى فضلها ومحبة الله لها، ولم أغلق هذا الباب في وجه آدم، وهو أولى الناس به لمعرفته بالله العظيم وجزائه ورحمته، إضافة إلى شعوره بالذنب وأثره الجمّ عليه، وهذا الذي ذكره الله عنه } فعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى { (طه: 121-122).
لكن بولس يصر على أن " أجرة الخطية هي موت " ( رومية 6/23 )، وعليه فهذا الحكم لا نحول عنه، لأن الله لا يكذب، وهو يحب أن يرحم عباده، فلا سبيل للجمع بين إرادتيه إلا بالكفارة، لأن الله رحيم، وهو أيضاً لا يكذب في وعيده.
وهذا المبدأ غريب في تصوره الضعيف والسقيم لله، وحديثه عن الله مشوب بالتهام الرب العظيم بقلة الحيلة أو الخوف على سمعته ومنزلته عند مخلوقاته، وهو بكل حال متناقض مع النصوص التي أكدت أن أجرة الخطية موت، وأن الله يرفعه بالتوبة، من غير أن يتناقض عدله مع رحمته.
إذ يقول سفر حزقيال: "وإذا قلت للشرير: موتاً تموت. فإن رجع عن خطيته وعمل بالعدل والحق، إن رد الشرير الرهن، وعوّض عن المغتصَب، وسلك في فرائض الحياة بلا عمل إثم، فإنه حياة يحيا. لا يموت. كل خطيته التي أخطأ بها لا تذكر عليه، عمل بالعدل والحق، فيحيا حياة" (حزقيال 33/14-16)، فالموت الذي هو جزاء الخطية يرفع بالتوبة والعمل الصالح من غير حاجة إلى سفك دم.
العفو والغفران للمذنبين
ثم إنه ثمة مخرج آخر للجمع بين سنة الله في عقاب الظالمين وعفوه عنهم، ألا وهو سنته في العفو عنهم، فهو لا يتناقض مع العدل، إذ لن يسأل أحد ربه لماذا عفا عمن عفا عنه من المسيئين ؟
وقبل أن نتحدث عن العفو نلاحظ أن لمصطلح العدل عند النصارى مفهوم خاطئ، فالعدل هو عدم نقص شيء من أجر المحسنين، وعدم الزيادة في عقاب المسيء عما يستحق، فهو توفية الناس حقهم بلا نقص في الأجر، ولا زيادة في العقاب.
وعليه فإخلاف الوعيد لا يتعارض مع العدل، بل هو كرم الله الذي قد يمنحه للمسيئين، عفواً منه ومغفرة جل وعلا، فهو العفو الرحيم.
والعفو من الصفات الإلهية التي اتصف بها الرب، وطلب من عباده أن يتصفوا بها، وهو أولى بها لما فيها من كمال وحُسن، وقد عفا عن بني إسرائيل "رضيت يا رب على أرضك، أرجعت سبي يعقوب، غفرت إثم شعبك، سترت كل خطيتهم، سلاه، حجزت كل رجزك، رجعت عن حمو غضبك" (المزمور 85/1-3).
ويقول بولس: " طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم، طوبى للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية" (رومية 4/7-، فثمة أناس عفا الله عن خطاياهم وذنوبهم وسترها عليهم، من غير دم يسفك عنهم ولا تناقض بين عدل الله ورحمته بشأنهم.
وقد علّم المسيح تلاميذه خلق العفو، وضرب لهم مثلاً قصة العبد المديون والمدين (انظر متى 18/23 - 34 ).
وكان بطرس قد سأل المسيح: " يا رب كم مرة يخطئ إليّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟ قال له يسوع: بل إلى سبعين مرة " ( متى 18/21 - 22 ).
ومرة أخرى قال لهم: " أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه تشرق شمسه على الأشرار والصالحين،
ويمطر على الأبرار والظالمين " ( متى 5/44 - 45 )، فالعفو عن الخاطئين صفة مدح، اللهُ أولى بها من عباده، وهو أقدر منهم وأغنى جل وعز.
ولم لا يكون العفو بصك غفران يمنحه الله لآدم، ويجنب المسيح ويلات الصلب وآلامه، أو لم لا يجعل للمسيح فدية عن الصلب، كما جعل لإبراهيم فدية فدى بها ابنه إسماعيل.
وكذا فإن إصرار النصارى على أنه لا تكون مغفرة إلا بسفك دم (انظر عبرانيين 9/22) ترده نصوص أخرى أخبرت أن الله قد يرفض الذبائح ولا يرتضيها وسيلة للخلاص، منها ما جاء في متى: " إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبراراً، بل خطاة إلى التوبة " ( متى 9/13 ).
وفي التوراة أن الله قال لبني إسرائيل: " بغضتُ، كرهتُ أعيادكم، ولست ألتذُّ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها " (عاموس 5/21 - 22 )، فالذي يريده الله منهم هو العمل الصالح، لا الذبيحة فقط.
وفي سفر المزامير "يا رب افتح شفتيّ فيخبر فمي بتسبيحك، لأنك لا تسرّ بذبيحة، وإلا فكنت أقدمها، بمحرقة لا ترضى، ذبائح الله هي روح منكسرة، القلب المنكسر والمنسحق" (المزمور 15/15-17).
فليست الذبيحة الوسيلة الأقرب لرضوان الله، بل أفضل منها العمل الصالح، والقلب المنكسر المتذلل لله العظيم.
[b]
[/b]
عدل سابقا من قبل في الخميس يناير 17, 2008 5:09 am عدل 1 مرات