دور
مارقيون في تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس
الدكتور بارت إيرمان
يمكننا تتبع أثر تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس
المسيحي حتى الآن عن كثب من خلال ما بين أيدينا من دليل .
ففي الوقت ذاته الذي كان يكتب فيه جوستينوس ، أي في منتصف القرن
الثاني ، كان ثمة كاتبٌ مسيحيّ بارزٌ آخر يمارس نشاطه داخل روما ، وهو الفيلسوف
المعلم مرقيون ، الذي حكم عليه فيما بعد بالهرطقة (12)
. مرقيون كان شخصية مثيرة للاهتمام للعديد من الأسباب .
فهو كان قد جاء إلى روما من آسيا
الصغرى ،
وكان بالفعل قد كوَّن ثروة مما كان
واضحًا أنه أعمال متعلقة ببناء السفن . عند وصوله إلى روما ، تبرع للكنيسة في
روما بمبلغ طائل ،ربما لكي يحصل ، إلى حدٍ ما ، على عونها الكريم .
وقد ظلَّ في روما لخمس سنوات ، منفقا
كثيرا من وقته في نشر مفهومه عن الإيمان المسيحي وفي كتابة تفاصيل هذا الإيمان في
العديد من الكتابات.
لم يكن عمله الأكثر تأثيرا هو شئ قام
بكتابته ،بل شئ قام بتعديله. لقد كان مرقيون هو أول مسيحيٍّ، فيما نعلم، قام بتشكيل "قانون" فعليٍّ للكتاب المقدس ـ
أي مجموعة من
الكتب التي ،كما زعم ، تضم النصوص المقدسة النافعة للإيمان .
لكي نفهم هذه المحاولة الأولى لتشكيل قائمة
رسمية للكتاب المقدس ، نحتاج إلى أن نعرف قليلا من المعلومات حول تعاليم مرقيون
الفريدة .
لقد كان مرقيون مأخوذًا تمامًا بحياة وتعاليم الرسول
بولس ،الذي كان يعتبره الرسول الوحيد "الحقيقيَّ"
من الأيام الأولى للكنيسة.
في بعض رسائله ، مثل الرسائل إلى أهل رومية و
أهل غلاطية ، كانت تعاليم بولس تنص على أن المنزلة الطيبة أمام الله تأتي فقط من
الإيمان بالمسيح ،
وليس بأداء أيٍٍّ من الأعمال التي
فرضتها الشريعة اليهودية.
التقط مرقيون هذا الاختلاف بين شريعة
اليهود و بين الإيمان بالمسيح ليصل به إلى ما رأى
أنه نتيجة ذلك
المنطقية ،
وهي أنَّ هناك تمايزًا تامًّا بين الشريعة
من ناحية وبين الإنجيل من الناحية الأخرى.
لقد كانت الشريعة مختلفة تمام الاختلاف
عن الإنجيل ،في الحقيقة ، إلى درجة جعلت من المستحيل أن يكونا كلاهما قد جاءا من
الإله ذاته .
استنتج مرقيون
أن رب يسوع (وبولس) لم يكن ،لهذا السبب ،الإله ذاته الذي أوحى العهد القديم.
لقد كان ثمة ،في الواقع، إلهان اثنان مختلفان:
إله اليهود ، الذي خلق العالم ، ودعا
إسرائيل ليكونوا شعبه المختار ، وأنزل إليهم قانونه القاسي ؛
وإله يسوع ،الذي أرسل المسيح إلى العالم لينقذ بني البشر من
الانتقام القاسي لرب اليهود الخالق.
آمن مرقيون بأن هذا المفهوم عن يسوع هو ما بشَّر به بولس
نفسُه ،وهكذا ، ضمَّت قائمتُه الرسمية للكتاب المقدس الرسائلَ العشرَ التي كتبها
بولس
وهي التي كانت متاحة له ( هذه الرسائل
كلها موجودة في العهد الجديد ما عدا الرسائل الرعوية، وهي الرسالتان الأولى
والثانية إلى تيموثي وتيطس)؛
ولأنَّ بولس كان أحيانًا يشير إلى
"إنجيله"، فقد ضمَّ مرقيون إنجيلا
(Gospel) إلى قائمته ،
وهو شكل من إنجيل لوقا المعروف لنا الآن
. وهذا كل ما في الأمر .
لقد تكونت قائمة مرقيون من أحد عشر كتابا
: لم يكن ثمة عهدٌ قديمٌ ،بل كتابٌ مقدسٌ واحدٌ فحسب ، مضافا إليه عشر
رسائل
. ليس ذلك فحسب :
بل كان مرقيون يعتقد أن المؤمنين الكاذبين ، أي الذين لم يكونوا يشاطرونه مفهومه
الخاص عن الإيمان ،
قد نقلوا هذه الأحد عشر كتابا عبر نسخها و
إضافة أجزاء من هنا ومن هنالك لكي تتماشى مع معتقداتهم الخاصة التي من بينها
مفهومهم "الباطل"
عن كون إله العهد القديم هو أيضا إله
يسوع
. وهكذا "صحَّح" مرقيون الكتب الأحد عشر التي تضمنتها
قائمته عبر حذف الإشارات إلى إله العهد القديم ،
أو إلى الخلق باعتباره عمل الإله الحق
، أو إلى الشريعة باعتبارها شئ ينبغي الالتزام به .
كما سنرى ، محاولة مرقيون لجعل نصوصه المقدسة
تتوائم بشكل أكثر إحكاما مع تعاليمه عبر تحريفها
لم تكن بالأمر الجديد .
فقبله وبعده على حدٍ سواء ، حرَّف نساخ
الأدب المسيحي المبكر من وقت لآخر نصوصهم ليجعلوها تقول ما يعتقدون أنها بالفعل
تعنيه.
القائمة "الأرثوذكسية
" بعد عصر مرقيون
يعتقد كثير من العلماء أن المسيحيين
الآخرين أصبحوا أكثر اهتماما بوضع تصور لما يفترض أن يصبح قائمةً لأسفار العهد
الجديد كشكل من أشكال المقاومة لمرقيون تحديدا.
من الطريف أنه في العصر الذي عاش فيه
مرقيون ،كان جوستينوس يمكنه الكلام بطريقة أكثر غموضا عن " مذكرات الرسل
"بدون الإشارة إلى أيٍّ هذه الكتب ( أو ربما الأناجيل ) كان مقبولا في
الكنائس ولماذا ، في حين اتخذ كاتبٌ مسيحيٌّ آخرُ، عارض مرقيون أيضًا ،
بعد ذلك بحوالي ثلاثين عاما موقفا أكثر مَيْلا
للجزم والتأكيد . إنه إيريناوس، أسقف ليون في بلاد الغال (فرنسا في العصر الحديث
)،الذي كتب عملا من خمس مجلدات ضد الهراطقة من أمثال مرقيون والغنوصيين ،
و كانت لديه أفكارٌ شديدةُ الوضوح فيما
يتعلق بأيِّ الكتب ينبغي أن يعتبر من بين الأناجيل القانونية . في فقرة يكثر
اقتباسها من مؤلَّفه ضد الهراقطة ،
يقول إيريناوس إن مرقيون لم يكن وحده
فحسب الذي افترض بالباطل أن هذا الإنجيل أو ذاك فقط من بين الأناجيل هو المستحق
لأن يقبل باعتباره كتابا مقدسا ،
بل كان معه أيضا "هراطقة" آخرون
، :
فالمسيحيون
المتهوِّدون الذين تمسكوا بالصلاحية المتواصلة للشريعة
استخدموا متى وحده ؛
بعض المجموعات الذين زعموا أن يسوع ليس
هو المسيح في الحقيقة قبلوا إنجيل مرقس فحسب ؛
مرقيون وأتباعه قبلوا فقط (شكلا من )
لوقا ؛ ومجموعة من الغنوصيين سموا بال"فلانتينيين "قبلوا إنجيل يوحنا
فحسب . هؤلاء جميعًا كانوا مخطئين ، مع ذلك، لأنه ليس من الممكن أن تكون
الأناجيل أكثر أو أقل عددًا مما هي عليه حيث إن المناطق التي نعيش فيها في
العالم هي أربع مناطق ، والرياح الرئيسية أربعة ، وفي حين تنتشر الكنيسة في
أنحاء العالم ، وعامود الكنيسة و أرضها هو الإنجيل... . فمن المناسب أن يكون لها
عمدان أربع ، (ضد الهراطقة 3 . 11 .7)
بكلمات أخرى ، زوايا الأرض أربع ، الرياح أربعة ،
العمدان أربعة ـ فمن الضروري ،حينذ ، أن تكون الأناجيل أربعة .
وهكذا ، قرب
نهاية القرن الثاني كان هناك مسيحيون يصرُّون على أنَّ
متَّى ، مرقس ، لوقا ، ويوحنا كانت هي الأناجيل ؛
ولم يكن ثمة أكثر من ذلك أو أقل. ولقد استمرت النقاشات حول حدود القائمة الرسمية لقرون
عديدة .
ويبدو أن المسيحيين هنا وهناك كانوا مهتمين
بمعرفة أيِّ الكتب ينبغي أن تُقْبَل باعتبارها كتبًا مقدسة وذلك ليعلموا :
أولا:
أي الكتب ينبغي قراءتها في خدمة الصلاة
وثانيًا: وهو
الأمر وثيق الصلة بالسبب الأول ، ليعرفوا أي الكتب يمكن الوثوق بها كناصح أمين
يرشدهم إلى ما يجب أن يؤمنوا به والسلوكيات التي ينبغي أن يسيروا على هديها .
لم تكن القرارات التي اتخذت بشأن الكتب وأيها ينبغي أن
ينظر إليه في النهاية باعتباره قانونيًّا قرارات تم اتخاذها على نحوٍ آليٍّ أو
بشكل خال من المشاكل ؛
لقد كانت مناقشات طويلة وممتدة ،
وأحيانا عنيفة . ربما يعتقد كثير من المسيحيين اليوم أن قائمة كتب العهد الجديد الرسمية
ظهرت إلى الوجود ببساطة في يوم ما بعد موت يسوع بوقت قليل ،
إلا أن هذا الاعتقاد لا يضارعه في
البعد عن الحقيقة أيُّ شئٍ آخر. كما سيتضح ، نحن قادرون على تحديد الوقت الذي
قام فيه واحدٌ من المسيحيين من الموثوق بهم بوضع قائمة تضم كتب عهدنا الجديد
السبعة والعشرين - أو أكثر أو أقل
.
ربما سيبدو مدهشا أن هذا المسيحي كان يمارس الكتابة في
النصف الثاني من القرن الرابع ، أي بعد ثلاثمائة عام تقريبا من العصر الذي بدأت
تُكتَب فيه كتب العهد الجديد ذاتها.
هذا المؤلف هو أثناسيوس، أسقف
الإسكندرية الأقوى. في
عام 367 م ، كتب أثناسيوس رسالته الرعوية السنوية إلى الكنائس المصرية تحت
ولايته ، ضمَّنها نصيحة بخصوص الكتب التي ينبغي أن تقرأ في الكنائس باعتبارها
الكتاب المقدس.
حيث ذكر في
قائمته كتبنا السبعة والعشرين ، واستثنى ما عداها من
كتب . هذه هي المناسبة الأولى المسجلة لشخص يؤكد أن مجموعة الأسفار التي نعرفها
هي العهد الجديد .
بل حتى أثناسيوس لم يحسم هذه المسألة .
فقد استمرت المناظرات لعشرات السنين ، بل وحتى القرون .
إنَّ الكتب التي
نطلق عليها لفظ العهد الجديد لم تُجمَع معًا في قائمة رسمية واحدة و لم تعتبر
كتابا مقدسا ،في النهاية ،إلا بعد مرور المئات من السنين
على العصر الذي كتبت فيه هذه الكتب للمرة الأولى.
قُرَّاءُ الكتابات المسيحية
في الباب السابق تركّز نقاشنا حول
تقنين (canonization )الكتاب
المقدس.
وكما رأينا سابقا كان المسيحيون ، رغم
ذلك ،يكتبون و يقرأون أنواع كثيرة من الكتب في القرون الأولى ،
وليس فقط الكتب التي نجحت في أن تصبح
جزءا من العهد الجديد. لقد كان ثمة أناجيل أخرى ،وأعمال ، ورسائل ، و رؤى ؛ و
كان هناك تدوينات للاضطهادات ، وحكايات عن الاستشهاد ، وكتب تدافع عن الإيمان ،
ونظم كنسية ، وأعمال تهاجم الهراطقة ، ورسائل وعظية و تعليمية ،وشروحات للكتاب
المقدس - منظومة كاملة من الأعمال الأدبية التي ساعدت في رسم حدود المسيحية
وجعلها تلك الديانة التي كانتها .
سيكون من المفيد
في هذه المرحلة من نقاشنا أن نسأل سؤالا أساسيًّا حول كل هذه الأعمال الأدبية.
من الذي كان يقوم بقراءتها ؟
في عالم اليوم ، ربما سيبدو ذلك سؤالا غريبًا نوعًا ما
. فلو كان المؤلفون يكتبون كتبًا من أجل المسيحيين ، فالذين يقرأون الكتب
سيكونون ولابد من المسيحيين.
فإذا كان السؤال يتناول العالم القديم
فإنه سيمثل مرارة خاصة لأن غالبية الناس ، في العالم القديم ، لم يكونوا يعرفون
القراءة . إنَّ معرفة القراءة والكتابة هي أسلوبُ حياة بالنسبة لنا في الغرب
المعاصر . نحن نقرأ طوالَ الوقت ، وكلَّ يوم . نقرأ الجرائد و المجلات و الكتب
من كل الأنواع - ترجمات الشخصيات ، الروايات ،كتب "كيف تفعل كذا" (how-to books) ،
كتب "اعتمد على نفسك" (self-help books)، كتب الحمية (diet)، كتب دينية ، كتب فلسفية ، علوم التاريخ ،مذكرات ، وهكذا بلا
توقف .
لكنَّ السهولة التي نشعر بها اليوم مع اللغة المكتوبة
ليس لها أي علاقة بممارسات القراءة وحقائقها في العصور القديمة. لقد أظهرت
الدراسات المتعلقة بمعرفة القراءة والكتابة أن ما نعتقده حول معرفة الجماهير
للقراءة والكتابة هي ظاهرة حديثة ، ظهرت فقط مع بزوغ فجر الثورة الصناعية (13) .
فهي تحدث فقط عندما ترى الأمم أن ثمة فائدة
اقتصادية في جعلها كلَّ شخص قادرا على القراءة ، إلى الدرجة التي تجعلهم ينتوون
أن يكرسوا كل الموارد الضخمة - خاصة الوقت ، المال ،
و الموارد البشرية- التي يحتاجونها
للتأكد من أن كل إنسان قد حصل على قدر أساسي من التعليم يؤهله للقراءة والكتابة.
في المجتمعات غير الصناعية ، كانت الموارد مطلوبة لأشياء أخرى بدرجة كبيرة ،
ومعرفة القراءة والكتابة لم تكن تساعد اقتصاد المجتمع ولا رفاهيته ككل. وفي
المحصلة ،
حتى العصر الحالي ، كل المجتمعات
تقريبًا كانت تضم أقلية صغيرة فحسب من القادرين على القراءة والكتابة .
وهذا ينطبق حتى على المجتمعات القديمة التي نربطها تلقائيًا
بالقراءة والكتابة - روما ، على سبيل المثال ،خلال القرون المسيحية المبكرة ، أو
حتى اليونان في أثناء الفترة الكلاسيكية . أفضل دراسة معروفة عن معرفة القراءة
والكتابة في الأزمنة القديمة و أكثرها تأثيرا ،هي تلك التي كتبها ويليام هاريس
البروفيسور بجامعة كولومبيا ،حيث تشير إلى أنه في أفضل الأوقات و الأماكن ـ
أثينا ،على سبيل المثال ، في أوج الفترة الكلاسيكية في القرن الخامس قبل
الميلاد- كانت معدلات القراءة والكتابة نادرًا ما تتعدى نسبة 10 – 15 في المائة
من السكان . لكي نعكس حقيقة هذه الأرقام ، هذا يعني أنه في أفضل الظروف ،85 – 90
في المائة من السكان لم يكن بإمكانهم القراءة ولا الكتابة . في القرن المسيحي
الأول ، في مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية ، معدلات معرفة القراءة والكتابة
ربما كانت أقل نوعًا ما (14) . حتى وضع تعريف ، كما سيتضح ، لما تعنيه القدرة
على القراءة والكتابة هو عمل شديد التعقيد . فكثير من الناس يمكنهم القراءة
لكنهم ، على سبيل المثال ، يعجزون عن تكوين جملة كاملة. ثمَّ ما هو معنى كونك
تعرف القراءة ؟ هل الناس يمكن تصنيفهم بين من يعرفون القراءة والكتابة لو كان
باستطاعتهم معرفة معنى المسلسلات الكرتونية في الوقت الذي لا يعرفون فيه معنى
الصفحة الافتتاحية ؟ هل يمكننا أن نقول عن الناس إنهم يعرفون الكتابة لو كان
باستطاعتهم توقيع أسمائهم في الوقت الذي لا يستطيعون فيه نسخ صفحة بها أحد
النصوص ؟
مارقيون في تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس
الدكتور بارت إيرمان
يمكننا تتبع أثر تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس
المسيحي حتى الآن عن كثب من خلال ما بين أيدينا من دليل .
ففي الوقت ذاته الذي كان يكتب فيه جوستينوس ، أي في منتصف القرن
الثاني ، كان ثمة كاتبٌ مسيحيّ بارزٌ آخر يمارس نشاطه داخل روما ، وهو الفيلسوف
المعلم مرقيون ، الذي حكم عليه فيما بعد بالهرطقة (12)
. مرقيون كان شخصية مثيرة للاهتمام للعديد من الأسباب .
فهو كان قد جاء إلى روما من آسيا
الصغرى ،
وكان بالفعل قد كوَّن ثروة مما كان
واضحًا أنه أعمال متعلقة ببناء السفن . عند وصوله إلى روما ، تبرع للكنيسة في
روما بمبلغ طائل ،ربما لكي يحصل ، إلى حدٍ ما ، على عونها الكريم .
وقد ظلَّ في روما لخمس سنوات ، منفقا
كثيرا من وقته في نشر مفهومه عن الإيمان المسيحي وفي كتابة تفاصيل هذا الإيمان في
العديد من الكتابات.
لم يكن عمله الأكثر تأثيرا هو شئ قام
بكتابته ،بل شئ قام بتعديله. لقد كان مرقيون هو أول مسيحيٍّ، فيما نعلم، قام بتشكيل "قانون" فعليٍّ للكتاب المقدس ـ
أي مجموعة من
الكتب التي ،كما زعم ، تضم النصوص المقدسة النافعة للإيمان .
لكي نفهم هذه المحاولة الأولى لتشكيل قائمة
رسمية للكتاب المقدس ، نحتاج إلى أن نعرف قليلا من المعلومات حول تعاليم مرقيون
الفريدة .
لقد كان مرقيون مأخوذًا تمامًا بحياة وتعاليم الرسول
بولس ،الذي كان يعتبره الرسول الوحيد "الحقيقيَّ"
من الأيام الأولى للكنيسة.
في بعض رسائله ، مثل الرسائل إلى أهل رومية و
أهل غلاطية ، كانت تعاليم بولس تنص على أن المنزلة الطيبة أمام الله تأتي فقط من
الإيمان بالمسيح ،
وليس بأداء أيٍٍّ من الأعمال التي
فرضتها الشريعة اليهودية.
التقط مرقيون هذا الاختلاف بين شريعة
اليهود و بين الإيمان بالمسيح ليصل به إلى ما رأى
أنه نتيجة ذلك
المنطقية ،
وهي أنَّ هناك تمايزًا تامًّا بين الشريعة
من ناحية وبين الإنجيل من الناحية الأخرى.
لقد كانت الشريعة مختلفة تمام الاختلاف
عن الإنجيل ،في الحقيقة ، إلى درجة جعلت من المستحيل أن يكونا كلاهما قد جاءا من
الإله ذاته .
استنتج مرقيون
أن رب يسوع (وبولس) لم يكن ،لهذا السبب ،الإله ذاته الذي أوحى العهد القديم.
لقد كان ثمة ،في الواقع، إلهان اثنان مختلفان:
إله اليهود ، الذي خلق العالم ، ودعا
إسرائيل ليكونوا شعبه المختار ، وأنزل إليهم قانونه القاسي ؛
وإله يسوع ،الذي أرسل المسيح إلى العالم لينقذ بني البشر من
الانتقام القاسي لرب اليهود الخالق.
آمن مرقيون بأن هذا المفهوم عن يسوع هو ما بشَّر به بولس
نفسُه ،وهكذا ، ضمَّت قائمتُه الرسمية للكتاب المقدس الرسائلَ العشرَ التي كتبها
بولس
وهي التي كانت متاحة له ( هذه الرسائل
كلها موجودة في العهد الجديد ما عدا الرسائل الرعوية، وهي الرسالتان الأولى
والثانية إلى تيموثي وتيطس)؛
ولأنَّ بولس كان أحيانًا يشير إلى
"إنجيله"، فقد ضمَّ مرقيون إنجيلا
(Gospel) إلى قائمته ،
وهو شكل من إنجيل لوقا المعروف لنا الآن
. وهذا كل ما في الأمر .
لقد تكونت قائمة مرقيون من أحد عشر كتابا
: لم يكن ثمة عهدٌ قديمٌ ،بل كتابٌ مقدسٌ واحدٌ فحسب ، مضافا إليه عشر
رسائل
. ليس ذلك فحسب :
بل كان مرقيون يعتقد أن المؤمنين الكاذبين ، أي الذين لم يكونوا يشاطرونه مفهومه
الخاص عن الإيمان ،
قد نقلوا هذه الأحد عشر كتابا عبر نسخها و
إضافة أجزاء من هنا ومن هنالك لكي تتماشى مع معتقداتهم الخاصة التي من بينها
مفهومهم "الباطل"
عن كون إله العهد القديم هو أيضا إله
يسوع
. وهكذا "صحَّح" مرقيون الكتب الأحد عشر التي تضمنتها
قائمته عبر حذف الإشارات إلى إله العهد القديم ،
أو إلى الخلق باعتباره عمل الإله الحق
، أو إلى الشريعة باعتبارها شئ ينبغي الالتزام به .
كما سنرى ، محاولة مرقيون لجعل نصوصه المقدسة
تتوائم بشكل أكثر إحكاما مع تعاليمه عبر تحريفها
لم تكن بالأمر الجديد .
فقبله وبعده على حدٍ سواء ، حرَّف نساخ
الأدب المسيحي المبكر من وقت لآخر نصوصهم ليجعلوها تقول ما يعتقدون أنها بالفعل
تعنيه.
القائمة "الأرثوذكسية
" بعد عصر مرقيون
يعتقد كثير من العلماء أن المسيحيين
الآخرين أصبحوا أكثر اهتماما بوضع تصور لما يفترض أن يصبح قائمةً لأسفار العهد
الجديد كشكل من أشكال المقاومة لمرقيون تحديدا.
من الطريف أنه في العصر الذي عاش فيه
مرقيون ،كان جوستينوس يمكنه الكلام بطريقة أكثر غموضا عن " مذكرات الرسل
"بدون الإشارة إلى أيٍّ هذه الكتب ( أو ربما الأناجيل ) كان مقبولا في
الكنائس ولماذا ، في حين اتخذ كاتبٌ مسيحيٌّ آخرُ، عارض مرقيون أيضًا ،
بعد ذلك بحوالي ثلاثين عاما موقفا أكثر مَيْلا
للجزم والتأكيد . إنه إيريناوس، أسقف ليون في بلاد الغال (فرنسا في العصر الحديث
)،الذي كتب عملا من خمس مجلدات ضد الهراطقة من أمثال مرقيون والغنوصيين ،
و كانت لديه أفكارٌ شديدةُ الوضوح فيما
يتعلق بأيِّ الكتب ينبغي أن يعتبر من بين الأناجيل القانونية . في فقرة يكثر
اقتباسها من مؤلَّفه ضد الهراقطة ،
يقول إيريناوس إن مرقيون لم يكن وحده
فحسب الذي افترض بالباطل أن هذا الإنجيل أو ذاك فقط من بين الأناجيل هو المستحق
لأن يقبل باعتباره كتابا مقدسا ،
بل كان معه أيضا "هراطقة" آخرون
، :
فالمسيحيون
المتهوِّدون الذين تمسكوا بالصلاحية المتواصلة للشريعة
استخدموا متى وحده ؛
بعض المجموعات الذين زعموا أن يسوع ليس
هو المسيح في الحقيقة قبلوا إنجيل مرقس فحسب ؛
مرقيون وأتباعه قبلوا فقط (شكلا من )
لوقا ؛ ومجموعة من الغنوصيين سموا بال"فلانتينيين "قبلوا إنجيل يوحنا
فحسب . هؤلاء جميعًا كانوا مخطئين ، مع ذلك، لأنه ليس من الممكن أن تكون
الأناجيل أكثر أو أقل عددًا مما هي عليه حيث إن المناطق التي نعيش فيها في
العالم هي أربع مناطق ، والرياح الرئيسية أربعة ، وفي حين تنتشر الكنيسة في
أنحاء العالم ، وعامود الكنيسة و أرضها هو الإنجيل... . فمن المناسب أن يكون لها
عمدان أربع ، (ضد الهراطقة 3 . 11 .7)
بكلمات أخرى ، زوايا الأرض أربع ، الرياح أربعة ،
العمدان أربعة ـ فمن الضروري ،حينذ ، أن تكون الأناجيل أربعة .
وهكذا ، قرب
نهاية القرن الثاني كان هناك مسيحيون يصرُّون على أنَّ
متَّى ، مرقس ، لوقا ، ويوحنا كانت هي الأناجيل ؛
ولم يكن ثمة أكثر من ذلك أو أقل. ولقد استمرت النقاشات حول حدود القائمة الرسمية لقرون
عديدة .
ويبدو أن المسيحيين هنا وهناك كانوا مهتمين
بمعرفة أيِّ الكتب ينبغي أن تُقْبَل باعتبارها كتبًا مقدسة وذلك ليعلموا :
أولا:
أي الكتب ينبغي قراءتها في خدمة الصلاة
وثانيًا: وهو
الأمر وثيق الصلة بالسبب الأول ، ليعرفوا أي الكتب يمكن الوثوق بها كناصح أمين
يرشدهم إلى ما يجب أن يؤمنوا به والسلوكيات التي ينبغي أن يسيروا على هديها .
لم تكن القرارات التي اتخذت بشأن الكتب وأيها ينبغي أن
ينظر إليه في النهاية باعتباره قانونيًّا قرارات تم اتخاذها على نحوٍ آليٍّ أو
بشكل خال من المشاكل ؛
لقد كانت مناقشات طويلة وممتدة ،
وأحيانا عنيفة . ربما يعتقد كثير من المسيحيين اليوم أن قائمة كتب العهد الجديد الرسمية
ظهرت إلى الوجود ببساطة في يوم ما بعد موت يسوع بوقت قليل ،
إلا أن هذا الاعتقاد لا يضارعه في
البعد عن الحقيقة أيُّ شئٍ آخر. كما سيتضح ، نحن قادرون على تحديد الوقت الذي
قام فيه واحدٌ من المسيحيين من الموثوق بهم بوضع قائمة تضم كتب عهدنا الجديد
السبعة والعشرين - أو أكثر أو أقل
.
ربما سيبدو مدهشا أن هذا المسيحي كان يمارس الكتابة في
النصف الثاني من القرن الرابع ، أي بعد ثلاثمائة عام تقريبا من العصر الذي بدأت
تُكتَب فيه كتب العهد الجديد ذاتها.
هذا المؤلف هو أثناسيوس، أسقف
الإسكندرية الأقوى. في
عام 367 م ، كتب أثناسيوس رسالته الرعوية السنوية إلى الكنائس المصرية تحت
ولايته ، ضمَّنها نصيحة بخصوص الكتب التي ينبغي أن تقرأ في الكنائس باعتبارها
الكتاب المقدس.
حيث ذكر في
قائمته كتبنا السبعة والعشرين ، واستثنى ما عداها من
كتب . هذه هي المناسبة الأولى المسجلة لشخص يؤكد أن مجموعة الأسفار التي نعرفها
هي العهد الجديد .
بل حتى أثناسيوس لم يحسم هذه المسألة .
فقد استمرت المناظرات لعشرات السنين ، بل وحتى القرون .
إنَّ الكتب التي
نطلق عليها لفظ العهد الجديد لم تُجمَع معًا في قائمة رسمية واحدة و لم تعتبر
كتابا مقدسا ،في النهاية ،إلا بعد مرور المئات من السنين
على العصر الذي كتبت فيه هذه الكتب للمرة الأولى.
قُرَّاءُ الكتابات المسيحية
في الباب السابق تركّز نقاشنا حول
تقنين (canonization )الكتاب
المقدس.
وكما رأينا سابقا كان المسيحيون ، رغم
ذلك ،يكتبون و يقرأون أنواع كثيرة من الكتب في القرون الأولى ،
وليس فقط الكتب التي نجحت في أن تصبح
جزءا من العهد الجديد. لقد كان ثمة أناجيل أخرى ،وأعمال ، ورسائل ، و رؤى ؛ و
كان هناك تدوينات للاضطهادات ، وحكايات عن الاستشهاد ، وكتب تدافع عن الإيمان ،
ونظم كنسية ، وأعمال تهاجم الهراطقة ، ورسائل وعظية و تعليمية ،وشروحات للكتاب
المقدس - منظومة كاملة من الأعمال الأدبية التي ساعدت في رسم حدود المسيحية
وجعلها تلك الديانة التي كانتها .
سيكون من المفيد
في هذه المرحلة من نقاشنا أن نسأل سؤالا أساسيًّا حول كل هذه الأعمال الأدبية.
من الذي كان يقوم بقراءتها ؟
في عالم اليوم ، ربما سيبدو ذلك سؤالا غريبًا نوعًا ما
. فلو كان المؤلفون يكتبون كتبًا من أجل المسيحيين ، فالذين يقرأون الكتب
سيكونون ولابد من المسيحيين.
فإذا كان السؤال يتناول العالم القديم
فإنه سيمثل مرارة خاصة لأن غالبية الناس ، في العالم القديم ، لم يكونوا يعرفون
القراءة . إنَّ معرفة القراءة والكتابة هي أسلوبُ حياة بالنسبة لنا في الغرب
المعاصر . نحن نقرأ طوالَ الوقت ، وكلَّ يوم . نقرأ الجرائد و المجلات و الكتب
من كل الأنواع - ترجمات الشخصيات ، الروايات ،كتب "كيف تفعل كذا" (how-to books) ،
كتب "اعتمد على نفسك" (self-help books)، كتب الحمية (diet)، كتب دينية ، كتب فلسفية ، علوم التاريخ ،مذكرات ، وهكذا بلا
توقف .
لكنَّ السهولة التي نشعر بها اليوم مع اللغة المكتوبة
ليس لها أي علاقة بممارسات القراءة وحقائقها في العصور القديمة. لقد أظهرت
الدراسات المتعلقة بمعرفة القراءة والكتابة أن ما نعتقده حول معرفة الجماهير
للقراءة والكتابة هي ظاهرة حديثة ، ظهرت فقط مع بزوغ فجر الثورة الصناعية (13) .
فهي تحدث فقط عندما ترى الأمم أن ثمة فائدة
اقتصادية في جعلها كلَّ شخص قادرا على القراءة ، إلى الدرجة التي تجعلهم ينتوون
أن يكرسوا كل الموارد الضخمة - خاصة الوقت ، المال ،
و الموارد البشرية- التي يحتاجونها
للتأكد من أن كل إنسان قد حصل على قدر أساسي من التعليم يؤهله للقراءة والكتابة.
في المجتمعات غير الصناعية ، كانت الموارد مطلوبة لأشياء أخرى بدرجة كبيرة ،
ومعرفة القراءة والكتابة لم تكن تساعد اقتصاد المجتمع ولا رفاهيته ككل. وفي
المحصلة ،
حتى العصر الحالي ، كل المجتمعات
تقريبًا كانت تضم أقلية صغيرة فحسب من القادرين على القراءة والكتابة .
وهذا ينطبق حتى على المجتمعات القديمة التي نربطها تلقائيًا
بالقراءة والكتابة - روما ، على سبيل المثال ،خلال القرون المسيحية المبكرة ، أو
حتى اليونان في أثناء الفترة الكلاسيكية . أفضل دراسة معروفة عن معرفة القراءة
والكتابة في الأزمنة القديمة و أكثرها تأثيرا ،هي تلك التي كتبها ويليام هاريس
البروفيسور بجامعة كولومبيا ،حيث تشير إلى أنه في أفضل الأوقات و الأماكن ـ
أثينا ،على سبيل المثال ، في أوج الفترة الكلاسيكية في القرن الخامس قبل
الميلاد- كانت معدلات القراءة والكتابة نادرًا ما تتعدى نسبة 10 – 15 في المائة
من السكان . لكي نعكس حقيقة هذه الأرقام ، هذا يعني أنه في أفضل الظروف ،85 – 90
في المائة من السكان لم يكن بإمكانهم القراءة ولا الكتابة . في القرن المسيحي
الأول ، في مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية ، معدلات معرفة القراءة والكتابة
ربما كانت أقل نوعًا ما (14) . حتى وضع تعريف ، كما سيتضح ، لما تعنيه القدرة
على القراءة والكتابة هو عمل شديد التعقيد . فكثير من الناس يمكنهم القراءة
لكنهم ، على سبيل المثال ، يعجزون عن تكوين جملة كاملة. ثمَّ ما هو معنى كونك
تعرف القراءة ؟ هل الناس يمكن تصنيفهم بين من يعرفون القراءة والكتابة لو كان
باستطاعتهم معرفة معنى المسلسلات الكرتونية في الوقت الذي لا يعرفون فيه معنى
الصفحة الافتتاحية ؟ هل يمكننا أن نقول عن الناس إنهم يعرفون الكتابة لو كان
باستطاعتهم توقيع أسمائهم في الوقت الذي لا يستطيعون فيه نسخ صفحة بها أحد
النصوص ؟